مواساة الآخرين كوسيلة لتخفيف المعاناة: تأثير الدعم النفسي والتعاطف
تعتبر المواساة والتعاطف مع الآخرين من أسمى صور التفاعل الإنساني، إذ تُعبّر عن قدرة الفرد على الاستجابة لمشاعر الآخرين من خلال تقديم الدعم العاطفي والطمأنينة في الأوقات الصعبة. قد يظن البعض أن مساعدة الآخرين تكمن فقط في تقديم النصائح أو الحلول العملية لمشاكلهم، لكن الحقيقة أن المواساة الفعّالة تتجاوز هذه الحدود لتشمل تقديم الراحة النفسية التي يمكن أن تساعد في تخفيف المعاناة والتخفيف من آثار الأوقات العصيبة.
فهم المواساة وأبعادها
المواساة هي عبارة عن تقديم الدعم العاطفي لشخص يعاني من الألم أو الحزن. إنها ليست مجرد كلمات تُقال أو أفعال يتم تقديمها، بل هي إحساس حقيقي من الشخص المتعاطف نحو مشاعر الآخر. قد يكون الألم الذي يعاني منه الشخص نفسيًا أو جسديًا أو اجتماعيًا، وفي كل هذه الحالات، يُظهر الشخص الذي يقدم المواساة التعاطف والاهتمام.
الهدف من المواساة ليس مجرد مشاركة الشخص مشاعره، بل إيجاد طريقة لمساعدته في التخفيف من معاناته. يمكن أن تكون المواساة على شكل كلمات مهدئة، أو حضور جسدي يُظهر الاهتمام، أو حتى الإيماءات البسيطة مثل العناق أو لمس اليد. لكن تأثيرها العميق يأتي من قدرة الشخص على فهم معاناة الآخر دون الحكم عليه أو محاولة إنكار مشاعره.
دور المواساة في تقليل التوتر والقلق
عندما يمر الإنسان بمواقف صعبة، مثل فقدان شخص عزيز، أو مواجهة مشاكل صحية، أو فقدان وظيفة، يصبح التوتر والقلق من ردود الفعل الطبيعية التي ترافق هذه الأوقات. المواساة تعمل كوسيلة لتهدئة هذه المشاعر من خلال تقليل الضغط النفسي. عند تقديم الدعم العاطفي، يشعر الشخص المتألم بوجود من يهتم بمشاعره ويسعى لتخفيف معاناته، مما يقلل من شعوره بالعزلة واليأس.
بحسب الأبحاث النفسية، يمكن للمواساة أن تساهم في تقليل مستويات الكورتيزول، وهو هرمون الإجهاد المرتبط بالتوتر، وبالتالي فإن المواساة تكون بمثابة أداة تخفف من تداعيات الإجهاد العقلي والجسدي.
الأثر الاجتماعي للمواساة
المواساة لا تقتصر فقط على الأبعاد النفسية الفردية، بل تمتد أيضًا إلى الأبعاد الاجتماعية. عندما يساهم شخص في تخفيف معاناة آخر، فإن ذلك يعزز الروابط الاجتماعية بين الأفراد. التعاون والاهتمام المتبادل يسهمان في بناء مجتمع صحي نفسياً. في المجتمعات التي تشجع على تقديم الدعم والمواساة، يصبح الأفراد أكثر قدرة على التغلب على التحديات والتكيف مع المواقف الصعبة.
في بعض الأحيان، قد يكون الشخص الذي يقدم المواساة نفسه يعاني من أعباء نفسية أو اجتماعية، لكنه يجد راحة في مساعدة الآخرين. هذا يمكن أن يُفسر من خلال النظرية النفسية المعروفة بـ “التأثير المضاد للألم”، حيث أن تقديم الدعم للآخرين يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الشخص المعطي، مما يخفف من معاناته ويزيد من شعوره بالهدف والانتماء.
تأثير المواساة على الصحة الجسدية والعقلية
يُظهر البحث العلمي أن المواساة يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على الصحة الجسدية والعقلية للفرد. في حالات التوتر والقلق، يمكن للمواساة أن تساعد في تقليل مخاطر الإصابة بأمراض مرتبطة بالتوتر مثل أمراض القلب والسكري. من خلال تقليل مستويات هرمون الكورتيزول ورفع مستويات هرمون الأوكسيتوسين (هرمون الحب والتواصل الاجتماعي)، تساعد المواساة في تعزيز الاستجابة العاطفية الإيجابية لدى الأفراد، مما يعود بالنفع على صحتهم العامة.
علاوة على ذلك، توفر المواساة بيئة مريحة للشخص المتألم، مما يتيح له فرصة التعبير عن مشاعره بحرية دون الخوف من الأحكام. هذا بدوره يعزز الصحة النفسية عن طريق تقليل مشاعر الكبت والضغط النفسي.
المواساة كأداة لتقوية الصمود
أحد الأثر العميق الذي تتركه المواساة هو تعزيز قدرة الفرد على الصمود في مواجهة الصعاب. عندما يتلقى الشخص الدعم النفسي في أوقات الأزمات، فإن هذا يساعده على تطوير قدرة أفضل على التأقلم مع التحديات المستقبلية. المواساة ليست مجرد وسيلة لتخفيف الألم المؤقت، بل هي أداة لبناء القوة الداخلية التي يحتاجها الفرد لمواجهة المواقف الصعبة في المستقبل.
في هذا السياق، يُنظر إلى المواساة على أنها تدريب للنفس على التعاطف مع الذات والآخرين في الأوقات العصيبة. هذا النوع من الدعم يساهم في تعزيز القدرة على مواجهة الضغوط الحياتية دون الانهيار. فالشعور بأنك لست وحيدًا في معاناتك يساعدك على إدراك أن الألم جزء من الحياة وأنه قابل للتعامل معه.
كيفية تقديم المواساة بفعالية
لكي تكون المواساة فعّالة في تخفيف المعاناة، هناك بعض المبادئ الأساسية التي يجب اتباعها:
-
الاستماع بصدق: عندما يشعر الشخص بالألم، فإن الاستماع الجيد يمكن أن يكون أكثر أهمية من تقديم الحلول أو النصائح. الاستماع يساعد الشخص المتألم على الشعور بأن مشاعره مهمة وأن هناك من يهتم بها.
-
التعاطف بدون أحكام: يجب أن تكون المواساة خالية من الأحكام والتقييمات. أحيانًا لا يحتاج الشخص إلى سماع “كيف يجب أن يتصرف”، بل يحتاج إلى الدعم والتفهم لما يمر به.
-
الكلمات المطمئنة: قد تكون كلمات المواساة البسيطة مثل “أنا هنا من أجلك” أو “أفهم كم هو صعب ما تمر به” كافية لتخفيف شعور الشخص بالوحدة والعزلة.
-
التواجد الجسدي: أحيانًا لا يكون الكلام هو الحل الأمثل. الحضور الجسدي بجانب الشخص المتألم يمكن أن يكون مريحًا ومواسيًا في حد ذاته، حيث يشعر الشخص بأنه محاط بالرعاية والاهتمام.
-
الاحترام لمشاعر الآخر: من المهم احترام الطريقة التي يعبر بها الشخص عن حزنه أو ألمه. قد يختار البعض أن يعبر عن معاناته بالكلام، بينما قد يفضل آخرون الانطواء أو الصمت. الاحترام والتقبل هو جزء أساسي من المواساة الفعّالة.
المواساة الذاتية وتخفيف المعاناة الشخصية
قد تكون المواساة الذاتية وسيلة فعّالة لتخفيف المعاناة الشخصية. ففي اللحظات التي لا يتوفر فيها دعم خارجي، يمكن أن يكون الفرد قادرًا على تقديم الدعم لنفسه من خلال ممارسة التعاطف الداخلي. يشمل ذلك الاعتراف بمشاعره دون انتقادها أو رفضها، وتقديم الراحة النفسية لنفسه في الأوقات الصعبة.
المواساة الذاتية لا تعني التراخي أو الاستسلام، بل هي قبول للواقع الحالي ومعالجة المشاعر السلبية بطريقة صحية. تساعد المواساة الذاتية في بناء علاقة إيجابية مع الذات، مما يعزز من قدرة الشخص على مواجهة التحديات وتحقيق النمو الشخصي.
الختام
إن القدرة على تقديم المواساة ليست فقط وسيلة لرفع المعاناة عن الآخرين، بل هي أيضًا وسيلة للتخفيف من معاناتنا الشخصية. من خلال العناية بالآخرين، نساعد أنفسنا على الشعور بالاتصال والانتماء، وهو ما يعزز صحتنا النفسية والعاطفية. إن المواساة، سواء كانت مع الآخرين أو مع الذات، هي أحد الأدوات الأساسية التي تساعد في بناء مجتمعات أكثر صحة وتماسكًا، وتعزز من قدرة الأفراد على التغلب على الصعاب والنهوض من جديد بعد كل تحدٍ.
